الشمس لا تُحجب بغربال، والحقيقة التي تترافق مع الحجج الدامغة لا يمكن الاختباء خلفها مهما حاول المزين إضفاء البهرج والمكياج ومحاولات تحسين الصورة.
فالبلاد في قعر الظلام وقرّ البرد، وعجلة الإنتاج متوقّفة لشحّ الموارد النفطيّة كما تزعم السلطات، وقرارات تتسبب بإيقاف العمل في أكثر من ميدان ليصبح الشلل العام في كافّة المرافق قاب قوسين أو أدنى، ريثما تُحلّ أزمة المُشتّقات النفطيّة، وأيضاً بحسب مزاعم السلطات.
والشائعات حول توقّف العملية التربويّة على سبيل المثال كثيرة، وليس الأمر بغريب، طالما أوقفت السلطات ذاتها مباريات دوري كرة القدم بحجّة عدم توفّر النقل لستّة فرق لتلعب ستّ مباريات.
ومع ذلك نرى السوق السوداء مُتخمة تماماً بكافّة المواد المفقودة عند مؤسسات السلطات في حالة فريدة من نوعها على سطح هذا الكوكب الآسن.
يُضاف إلى ذلك الأمر ظهور المُتحكّم وبشكلٍ رسميّ بالموارد النفطيّة واستيرادها أو شراءها أو حتى تكريرها، ووضعها تحت تصرّف الفعاليات الإقتصاديّة بحسب السعر الذي يريد.
وأيضاً لا غرابة في هذا الشأن، طالما أن مسامعنا اعتادت على أسماء المُحتكرين كلّ باختصاصه، فهناك إمبراطور للنفط، وملكٌ للسكّر، ورئيس لجمهورية الموز، وحامي عرين معامل الحديد الصلب، وأميرٌ لمادة المتّة، وولي عهد شركات الاتصالات والانتصارات، والكثير غيرهم، في بلدٍ يُحرّم دستوره في مادّة واضحة وصريحة الاحتكار.
وأيضاً وأيضاً الأمر ليس بغريب، في وطن اعتدنا فيه على دساتير الورق المُنتهك، مقابلاً لقوانين المقاسات المُفصّلة والمُنفصلة عن الواقع..
ليحضر السؤال المُهمّ والأهمّ: ماذا نفعل!؟.
وهل بإمكان هذه السلطات مع هياكل مؤسساتها تجاوز المُشكلات أو اجتراح الحلول للخروج منها؟.
بل هل تريد ذلك فعلاً !؟.
والجواب عند معظم السوريّين بأنّ الحلول ممكنة لو أرادت السلطات ذلك، وأن قيصر لا يغدو أكثر من شمّاعة لتعليق الفشل المُصطنع الذي يُخفي حجم السرقات الهائلة في الموارد وفروق الأسعار عند المحتكرين، والتي تذهب حُكماً للصانعين الأكبر تصاعديّاً، وأحد هذه الحلول وأنجعها هو التأميم.
والحديث بهذا الشأن – أيّ التأميم – ليس من باب الاستعراض وصفّ الكلمات، أو حتى لتذكير هذه السلطات، فهي تعرف تماماً ماهيّة هؤلاء المُحتكرين ومرجعيّتهم وتابعيّتهم وطريقة صناعتهم، وهي لن تفعل معهم أيّ أمر إلّا مرغمة، لكن الحديث بشأن الحلّ لأنه الوحيد الممكن وطوق نجاة البلاد بأسرها عبر هذه السلطات مرغمةً، أو بزوالها مع فسادها المُصطنع..
تعريفاً وباختصار، الفكرة تستهدف مالاً معيّناً ونشاطاً محدّداً تستردّ به “الدولة” الحقوق، وتحقّق به أمرين على الجانب السياسي الاقتصادي، وكذلك الجانب الاجتماعي..
فعلى الجانب السياسي الاقتصادي، تقوّي الفكرة سيادة الدولة، ويمتلك المجتمع الثروات الوطنيّة، ووسائل الإنتاج والمبادلة وتطويعها في خدمته..
وعلى الجانب الإجتماعي وفي ظلّ تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمتمثّلة بظهور الأزمات الدورية وارتفاع معدلات البطالة، وسوء توزيع الدخل، وتدمير البنى الاقتصادية نتيجة الحرب التي مرّت ولا زالت مستمرّة في البلاد مع انخفاض الإنتاج، والركود الاقتصادي، فالتأميم يُلغي الفوارق الطبقيّة وآثارها، وتكون بداية الطريق لترسيخ القوانين وتحقيق العدالة، والنهوض بالمجتمع بالعموم، وعودة العجلة للدوران.
تاريخيّاً، هي فكرة قديمة ظهرت في كتابات الفلاسفة القدماء، مثل “أفلاطون” الذي طرح عدّة أفكار حول العلاقة بين الفرد والمجتمع والملكيّة، وانتقد حقّ الملكيّة الفرديّة المطلقة في أثينا، وكذلك تضمّنت كتابات الفلاسفة المحدثين، أمثال “فيخته” و”هيغل”، وجود علاقة تفاعل بين الملكية والمجتمع، وطالبوا بتحديد وظيفة الملكية وأثرها الاجتماعي، ثم جاءت أفكار الاقتصاديين الإصلاحيين أمثال “سان سيمون” في فرنسا و”روبرت أوين” في بريطانيا في بداية القرن التاسع عشر، مطالبة بالقضاء على الظلم الاجتماعي، ووضع حدود للملكية الخاصة.
أما حديثاً، فتمّ تطبيق الفكرة في أكثر من بلد، ولعلّ أشهرها تأميم قناة السويس، وعودتها لكنف الدولة بما لها وعليها من أموال وحقوق وواجبات خدمةً للشعب المصريّ.
وقبلها فعلت ثورة 1917 الاشتراكية في روسيا.
ولكيّ لا يتوقّف الأمر على الدول الاشتراكيّة في حينها، ويظنّ البعض بأنّنا منحازون ل “ماركس” و”آنجلز”، فقد فعلت حكومة حزب العمال البريطانيّة الرأسماليّة – 1950 – ذات الأمر، وطبّقت ذات الفكرة إبان الحرب العالمية الثانية، والتي لم تجد ملاذاً آمناً للفرار من حالة الركود سوى بالتأميم، وكذلك حذت حذوها ليبيا والكويت والمكسيك والسعودية، والكثير من دول العالم التي أمّمت كلّ الشركات الأجنبية أو المحلّيّة في صالح القطاع العام ولأجله..
وفي وطننا، تمّ تطبيق الفكرة بعد الاستقلال، واستهدف التأميم الممتلكات الأجنبية العائدة لفرنسا عام 1951، وبعدها بأربع سنوات تم تأميم الخطوط الحديدية، ومصرف سوريا ولبنان، وفي عام 1959 تحولت جميع المصارف إلى شركات مساهمة، وفرضت الحكومة دفع عائدات أكبر على مرور النفط في الأراضي السورية، وبعدها بسنتين تمّ إصدار المراسيم 117 و 118 و 119 لعام 1961 القاضية بتأميم جميع المصارف وشركات التأمين ونقل ملكيتها إلى الدولة بصورة كاملة، ثمّ تأميم 77 شركة يزيد مجموع رؤوس أموالها على 170 مليون ليرة سورية، وبعدها بسنوات، وتحديداً عام 1964 صدر المرسوم رقم 133 القاضي بتأميم النفط والشركات العاملة في تصنيعه وتوزيعه “سوكوني فاكوم” و”شل” و”إسو”، وفي عام 1965 تم تأميم الشركات العاملة بالتجارة الخارجية للمواد المهمة مثل الأدوية والسكر والشاي والبن وعددها 46 شركة، وأعطيت مهماتها لشركة الاستيراد والتصدير الحكومية “سيمكس”..
واليوم، وفي ضوء هذه الأرقام والمواد، فهناك من يمتلك في وطننا أضعاف ميزانية الدولة برمّتها، ومن هؤلاء ماهو وليد الأزمة ومنهم ماهو قبلها، والجميع يعلم الأسماء كما اسمه، ويعلم علم اليقين بأنّ هذه الأموال تمّ تجميعها من السرقات والنهب والاحتكار والاستئثار والاستثمار عن طريق الولاءات والقرابات والمحسوبيّات ولعق أحذية السلطات، وأنّ لا قيامة أو حلّ في سوريا إلّا باسترداد الأموال المنهوبة وتشريع القوانين والأنظمة بعد حوارٍ سوريّ حقيقيّ يكون محوره مشروع وطني جامع لكلّ السوريّين.
التأميم وسيلة ضرورية لبناء النظام الاقتصادي الحقيقيّ، وخصوصاً أنّنا أو أنّ السلطات تدّعي بأنّ نظامها اشتراكيّ، ولا يقتصر على كونه إجراءً اقتصادياً فحسب، وإنما ذو طبيعة سياسية واجتماعية وأخلاقية، عن طريقه يصبح جميع المواطنين طبقة واحدة، وينتفي فيها استغلال الإنسان للإنسان، وتتوزع فيها العوائد بشكل متناسب مع الحاجات، أو مع الجهود المبذولة، وبات الأمل الوحيد في استمراريّة الحياة أو انهيار “الدولة” برمّتها، وللتذكير بأحد قوانين “المافيا” التي تخجل وترفع القبّعة أمام هذه السلطات، فأحد القوانين يشير بوجوب الحذر والخوف عند الأغنياء إذا جاع الفقراء.
وعليه، وفي ظلّ ماتشهده البلاد من حالٍ مأسويّ تشيب له الولدان، وتذهل فيه المرضعة عمّا أرضعت، فلا مناص أو بدّ عن تأميم ممتلكات الوطن، ولا أقصد هنا المباني الحكوميّة التي تعرّضّت للحرق والدمار، فهذا ليس بتأميم بل خراب، بل تأميم كلّ الواجهات التي تتلطّى خلفها هذه السلطات وتُديرها، ووجوب محاكمتها والقصاص من أفعالها، فهذه أموالنا وستردّ إلينا أو الفناء.
إقرأ أيضاً .. ريغار سياسي ..
إقرأ أيضاً .. نيرون وديوجين ..
*كاتب وروائي من سوريا – دمشق
المقال يعبر عن رأي الكاتب
صفحتنا على فيس بوك – قناة التيليغرام – تويتر twitter
التعليقات