أكدت العملية العسكرية الروسية الخاصة فى أوكرانيا، التى تقترب من عامها الأول، نضج الحرب الهجينة وتبلورها، وكونها حروب الحاضر والمستقبل، ومن الواضح أن روسيا لا تواجه أوكرانيا فحسب, وإنما الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسى كله، وعلى مختلف الساحات العسكرية والسيبرانية والاقتصادية وغيرها، مما فرض تغييرات مهمة فى التكتيكات العسكرية، يمكن إيجازها فى ثلاثة محاور أساسية.
أولها، أن توظيف القوات غير النظامية إلى جانب القوات النظامية أصبح ضرورة فى ضوء التغير فى طبيعة المواجهات والعمليات العسكرية، وكون الأخيرة لم تعد مقصورة على المعارك التقليدية بتحولها إلى حرب شوارع تمثل كابوسا لأعتى الجيوش. ويفسر هذا اتجاه العديد من الدول إلى تكوين شركات أمنية خاصة بقدرات قتالية احترافية على غرار الأمريكية بلاك ووتر التى وظفتها واشنطن فى احتلالها العراق. فقد أنشأت أوكرانيا ما أطلق عليه الفيلق الدولى للدفاع عن أوكرانيا، الذى ضم آلاف المقاتلين من بولندا والولايات المتحدة وكندا ورومانيا وبريطانيا وجورجيا وغيرها، إلى جانب المتطوعين من أجل أوكرانيا (VFU).
وفى المقابل أصبح لزاماً على روسيا الاعتماد على القوات شبه النظامية متمثلة فى كتيبة أحمد الشيشانية، ومجموعة فاجنر، نظرا لما فرضه تحصن القوات الأوكرانية، النظامية وغير النظامية، فى المبانى السكنية والمستشفيات والمدارس والمصانع من تحديات.
ثانيها، التوظيف المؤثر للأدوات السيبرانية والمعلوماتية، فقد كان للدعم المعلوماتى المقدم من حلف الناتو لأوكرانيا عبر ما يزيد على 70 قمراً صناعياً دور حيوى فى قدرة القوات الأوكرانية على المناورة وتوجيه بعض الضربات المؤلمة لروسيا ومن أهمها قصف طراد الصواريخ الموجهة موسكوفا، فى أكبر حدث من نوعه منذ تدمير بريطانيا طراد الجنرال بلجرانو خلال حرب فوكلاند عام 1982.
وفى المقابل اتهمت كييف روسيا بشن سلسلة من هجمات DDoS شملت مواقع مصرفية ودفاعية وحكومية أوكرانية. كما تعرض مزود خدمة الإنترنت عبر الأقمار الصناعية Viasat لهجوم سيبرانى أدى إلى انقطاع الاتصالات على نطاق واسع فى جميع أنحاء أوكرانيا.
ثالثها، الاتجاه المتزايد نحو الحروب الذكية عبر توظيف أوسع للذكاء الاصطناعى عسكرياً، فقد أكدت الحرب فى أوكرانيا أن الطائرات المسيرة باتت جزءا لا غنى عنه من العتاد العسكرى فى الحروب الحديثة.ورغم أن الاستخدام العسكرى للمسيرات يعود إلى أكثر من عقدين عندما استهدفت المسيرات الأمريكية قادة «طالبان» أفغانستان، كما اُستخدمت فى أربع حروب إقليمية خلال السنوات الخمس الماضية، سوريا وليبيا وناجورنو كارباخ واليمن، إلا إن كثافة توظيفها فى الحرب الأوكرانية دفع البعض إلى اعتبارها حرب مسيرات، حيث قامت المسيرات بأدوار مهمة وحاسمة تضمنت إلى جانب الإنذار المبكروالاستطلاع والتجسس وجمع المعلومات، تدمير الأهداف الأرضية والجوية، وتنفيذ الضربات بدلًا من الطيارات المقاتلة. وعزز من نجاح المسيرات إفلاتها من أنظمة الدفاع الجوى التقليدية، التى لم تستطع، فى كثير من الأحوال، رصدها وتدميرها، كون الأنظمة الدفاعية مصممة فى الغالب على كشف واعتراض الطائرات والصواريخ الباليستية ذات المقطع الرادارى الكبير. كما كان من الملاحظ توظيف نماذج تجارية صغيرة ورخيصة من الطائرات المسيرة فى العمليات العسكرية، وتحويل أوكرانيا الطائرات المسيرة الجاهزة «offthe shelf» ذات التكلفة المحدودة، إلى إمكانية إطلاق صاروخ موجه بدقة، أو تحويلها إلى سلاح تفجير ذاتى، انتحارى، كاميكازى، تنفجر عند الاصطدام بالدبابات الروسية، ووفقاً لبيانات وزارة الدفاع الروسية تم تدمير 2891 طائرة مسيرة للجانب الأوكرانى منذ بدء العملية وحتى 17 يناير 2023، مما يؤشر للاستخدام الكثيف للمسيرات.
لقد كشفت الحرب الأوكرانية عما تمثله الطائرات المسيرة من تحد مهم لمفهوم «السيادة الجوية» على سماء المعارك الأمر الذى يتطلب مستقبلًا مواكبة الدفاعات الجوية للتطور المستمر فى الطائرات المسيرة، وتعد أسلحة الليزر هى الجيل التالى من تكنولوجيا الأسلحة التى ستطورها الجيوش لمواجهة التهديد المتزايد من الطائرات المسيرة، والتى يبدو أن الصين فى الوقت الحالى تتقدم فيها أكثر من غيرها.كما تعمل روسيا منذعام 2015 على تطوير تقنيات جديدة للكشف عن الطائرات المسيرة والاشتباك معها، ومن ذلك تحديث نظام «بانتسير ــ إس 1 إم» الصاروخى أرض ــ جو، ليكون قادرًا على اكتشاف وتدمير جميع أنواع الطائرات المسيرة.على صعيد آخر، وفى تطور تكنولوجى جديد للحرب بين موسكو وكييف، أعلنت روسيا أنها ستوظف الروبوت ماركر القتالى فى أرض المعارك،ولحماية خط التماس مع القوات الأوكرانية، وسبق أن تم اختباره بنجاح كنظام دفاع جوى قريب لتدمير الطائرات المسيرة الصغيرة، بما فى ذلك طائرات كاميكازى الانتحارية، ويتميز برؤية تقنية قوية ونظام تحكم آلى يعمل بشكل مستقل فى ظروف الحرب السيبرانية، كما يقوم بعمليات تمشيط للمناطق التى خسرها العدو وتطهيرها.يضاف إلى ذلك الاستخدام المكثف للصواريخ البعيدة المدى من جانب روسيا بديلاً للطائرات، فقد بدأت روسيا المعارك بضربة صاروخية باستخدام الصواريخ الباليستية، بدلًا من الضربة الجوية، التى كانت أساس بدء العمليات فى المفهوم العسكرى التقليدى، واستخدمت منظومات عالية الدقة لم يسبق توظيفها منها صواريخ كينجال فرط الصوتية، وصواريخ كروز الاستراتيجية. وانطلقت موسكو فى هذا من أن الصواريخ الباليستية أكثر دقة فى الوصول إلى الهدف، وبتكلفة أقل بكثير بالنسبة لدولة منتجة لهذه الصواريخ. إن حرب أوكرانيا تعد منعطفاً ليس فقط فى النظام الدولى وتوازنات القوى به، ولكن فى الفكر العسكرى باتجاه الحروب الهجينة التى لا تقتصر على القدرات العسكرية التقليدية وإنما تتكامل معها العديد من الأبعاد السيبرانية والتكنولوجية والاقتصادية وغيرها.
لمزيد من مقالات د. نورهان الشيخ
رابط دائم:
التعليقات