التخطي إلى المحتوى

الفاهم محمد

لقد غيرت الثورة المعلوماتية الحضارة البشرية بشكل غير مسبوق. إنها ثورة لا تنحصر فقط في إيجاد مخترعات وأدوات جديدة، بل هي تتعدى ذلك إلى إمكان إحداث صدمة كبيرة، وخصوصاً فيما كان يعتبر إلى عهد قريب، شيئاً مقصوراً على الإنسان ألا وهو الوعي. إن علم البيانات والذكاء الاصطناعي، ربما يسير اليوم بشكل تدريجي إلى منافسة الإنسان في بعض ما كان يفخر به، ذلك الامتياز الذي يحقق بواسطته تميزه عن باقي الكائنات.
ولكن مهلاً، هل حقاً يمكن أن يصبح الذكاء الاصطناعي مماثلاً للذكاء البشري؟ هل يمكن فك شيفرة عمل الدماغ ورقمنة الوعي؟
من دون شك تتضمن الثورة المعلوماتية إغراءات كبيرة جداً. لقد أصبحت تندسُّ في كل تفاصيل الحياة اليومية، من القيادة الذاتية إلى المعلم الآلي، مروراً بروبوتات الرعاية الاجتماعية للمُسنين، والاستخدامات الكثيرة الأخرى.

لقد تمكن الكمبيوتر من حل ومعالجة أصعب المهام، التي كانت تستعصي، وربما تستحيل، على العقل البشري. في البيولوجيا مثلاً يتم حساب المعلومات داخل الحمض النووي وهي معلومات هائلة الحجم. وفي علم الفلك يتم توظيفه من أجل معالجة البيانات الفلكية التي تحيل على عدد النجوم والمجرات.
وبفضل الذكاء الاصطناعي بات بإمكاننا اختزال الوقت والجهد، وتجنب الأخطاء العرضية الناتجة عن ضعف الانتباه، والهفوات المميزة للسلوك البشري. وهكذا من دون شك تمتلك الآلة الذكية كفاءة خارقة، لا يتوفر البشر على أي حظ في مضاهاتها. فهل علينا أن نذعن لهذا التفوق؟ هل يمكن أن نفوض بعض قراراتنا الإنسانية الأساسية لصالح الذكاء الاصطناعي؟

مفهوم الذكاء الاصطناعي
يطلق مفهوم الذكاء الاصطناعي، وهو مصطلح صاغه جون ماكارتي سنة 1955 وطوره فيما بعد مارفن مينسكي، على مجموع التقنيات والخوارزميات المشكَّلة على هيئة تطبيقات، والتي تسعى إلى محاكاة الذكاء البشري. ولتحقيق هذا الهدف نحتاج إلى تزويد الكمبيوتر ببيانات هائلة Big data يقوم بمعالجتها بسرعة. ونميز عادة بين الذكاء الاصطناعي الضعيف والقوي. الأول هو ذلك الذكاء الذي يكون مبنياً على قاعدة برامج، يتم تزويد الكمبيوتر بها مسبقاً. كما هو الحال مثلاً مع «ديب بلو» الذي هزم بطل العالم للشطرنج غاري غاسباروف، حيث زود مسبقاً بكافة الوضعيات الممكنة لرقعة الشطرنج ليختار منها الأنسب. 

التعلم العميق
أما الذكاء القوي فهو مبني على فكرة التعلم العميق Deep Learning الذي يتيح للروبوتات أن تتعلم بشكل ذاتي، وأن تحاكي عمل الدماغ البشري، في محاولة منها لحل المشكلات التي تعترضها، دون الرجوع إلى الإنسان. 
إن النوع الأول من الذكاء يظل محدوداً، وأخطاؤه قابلة للمعالجة والتطوير. أما النوع الثاني فهو قد يشكل تهديداً حقيقياً، بحكم استقلاله عن الإنسان، وقد أبدى العالم الأميركي المختص في مجال الفيزياء النظرية متشيو كاكو تخوفاته إزاءه، حينما قال إن علينا أن نظل محافظين على إمكانية قطع التيار الكهربائي عنه.
والحال أن المتحمسين لإمكانية تجاوز الذكاء الاصطناعي للذكاء البشري كثيرون، نذكر منهم راي كورتزفايل الذي، حسب طرحه، يسير التطور في هذا الميدان نحو بلوغ المفردة the singularity وهي نقطة قد يتجاوز فيها الإنسان حدوده البيولوجية، كي يندمج مع الآلات! وهناك أيضا ستانيسلاس دوهين الذي يعتقد، من منطلق علم الأعصاب، أن بالإمكان فك شفرة الوعي، كما يعبّر عن ذلك عنوان كتاب له في هذا المجال. أما المعترضون فيمكن أن نذكر منهم الفيلسوف الأميركي جون سورل الذي يؤكد أن الذكاء الاصطناعي مهما تطور ستظل القصدية، أي إدراك المعنى، غائبة عنه، وهذا الوعي أو القصدية جانب أساسي في الوعي الإنساني، وبدونه لا شعر ولا فلسفة ولا تفكير حقيقياً.

اختبار «تورينغ»
ويقترح آلان تورينغ إجراء محادثة تتضمن العديد من الأسئلة بين إنسان وآلة، يفصل بينهما حجاب، حيث إن على الإنسان الموجود في طرف، أن يوجه هذه الأسئلة إلى من يوجد في الطرف الثاني، وهما إنسان آخر وآلة ذكية. فإذا استطاعت هذه الأخيرة تقديم الأجوبة، دون أن يتمكن السائل من تمييز من الذي يجيب هل هو الآلة أم الإنسان، فعندها يمكن أن نقول إن هذه الآلة قد اجتازت اختبار تورينغ. ولدينا الآن روبوتات بإمكانها فعلاً أن تنجح في هذا الاختبار، فهل معنى هذا أنها أصبحت بالفعل تمتلك وعياً يضاهي الوعي البشري؟!

الغرفة الصينية
ويقدم الفيلسوف الأميركي المعاصر جون سورل، مثال ما يسمى «الغرفة الصينية» للإجابة على هذا السؤال. ويتعلق الأمر بتجربة ذهنية أراد من خلالها أن يثبت أن الحاسوب مهما تطور لا يمكنه أبداً أن يكون قادراً على امتلاك الوعي. وتقوم التجربة على افتراض وجود شخص محجوز داخل غرفة مغلقة، وهو لا يعرف أي شيء عن اللغة الصينية، ولكنه يتوفر مع ذلك على مجموعة من القواعد المكتوبة باللغة الإنجليزية، التي تمكنه من ترجمة بعض الرموز الصينية. وعن طريق اعتماد هذه القواعد، سيتمكن هذا الشخص من تقديم إجابات باللغة الصينية، على رغم جهله بها، إلى درجة أنه قد يتمكن من خداع الشخص الآخر الموجود خارج الغرفة، الذي يجيد التحدث باللغة الصينية.
ويقدم جون سورل هذا المثال كحجة مضادة لاختبار تورينغ. بمعنى أن وجود كمبيوتر قادر على تقديم إجابات صحيحة واجتياز هذا الاختبار لا يعني بالضرورة أنه أصبح يمتلك وعياً. وبطريقة أخرى في نظر الفيلسوف، مهما كانت برامج الذكاء الاصطناعي التي ستتم برمجة الربوتات بها، فإن هذه الأخيرة ستظل ضعيفة، ولن تمتلك وعياً مماثلاً للوعي البشري. ولا يمكن إذن النظر إلى المخ على أنه مجرد حاسوب معقد من اللحم والأعصاب.

أخطار محتملة
صحيح أن الذكاء الاصطناعي يقدم فرصاً هائلة من أجل تطوير الحضارة الإنسانية، ولكنه في الآن ذاته قد يشكل تهديداً لم يسبق للإنسان أن واجهه. إن الأخطار التي يشكلها لا تنحصر فقط فيما هو متداول من استعمالات إجرامية في مجال الاختراق والهاكرز، والتلاعب بالبيانات، وفبركة المعلومات الزائفة. أو كذلك تلك الأخطاء الجانبية التي قد تحدث مثلاً في حالة اتخاذ السيارات ذاتية القيادة لقرارات سيئة قد تؤدي إلى وفيات بشرية. إن الأخطار التي نتحدث عنها هنا، هي من صميم الذكاء الاصطناعي نفسه وماهيته الداخلية. إن جل المخاطر السابقة تظل في متناول اليد، حيث بالإمكان دائماً إصلاحها وتحسين برمجتها. ولكن ما العمل إذا كانت هذه الأخطار تشكل تهديداً وجودياً للإنسان. يقدر بعض العلماء أن الذكاء الاصطناعي القوي، سيكون قادراً بحلول حوالي منتصف هذا القرن، على امتلاك ذكاء يضاهي الذكاء البشري بما فيه الجانب العاطفي!
لقد تناولت العديد من الأعمال الفنية طبيعة هذه الأخطار، وأشهرها مسلسل black mirror وكذلك الأفلام minority report وHer وEX machina وغيرها من الأعمال. إن المشكل المطروح هنا هو ما إذا كان بإمكان الآلة أن تمتلك وعياً يفوق بكثير الوعي البشري، مما قد يؤدي بها إلى تهديد البشر والسيطرة عليهم داخل عالم ديستوبيا Dystopia.

منعطف تاريخي
من دون شك نحن نعيش عشية منعطف تاريخي مثير، حيث يفترض البعض أن الذكاء الاصطناعي قد يتجه إلى تجاوز تفوق الوعي البشري وتعاليه. بالتأكيد ستكون الروبوتات في المستقبل أكثر ذكاء من الإنسان. ولكن هل هذا معناه أنها أصبحت واعية؟ إننا نقصد بالوعي هنا ليس مجرد تجميع لبيانات هائلة، ولكن ما أشار إليه الفيلسوف مارتن هيدغر في كتابه الشهير: «ما الذي ندعوه تفكيراً». إنه القدرة على الشك، والتساؤل والتأويل، والتفلسف، والإبداع، واستحضار المصير، والوجود العام للإنسان على هذه الأرض. فقد تكون الآلات ذكية ولكنها بالتأكيد لن تكون قادرة على الحلم ونظم الشعر والتفكير الفلسفي.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.