التخطي إلى المحتوى

باتت المنافسة بين الدول المتقدمة تتركّز على الجانبين العلمي والتقني، فأصبحت السيطرة على “تقنية الذكاء الاصطناعي” هي الطريق إلى التربّع على عرش العالم.

  •  بات الفارق في التطور التقني بين البلدين يُقاس بالساعات والدقائق

لم يعد الحديث عن التقنية والتطور، تقنياً وتكنولوجياً، حديثاً علمياً فقط، بل بات حديثاً سياسياً بامتياز، وخصوصاً أن تلك التقنية أضحت الأداة السياسية الأقوى، والسلاح الأنجع في أيدي الدول التي تسعى لتحقيق أي سبق علمي في هذا الجانب.

ولم تعد قوة الدولة هي القوة الصلبة، ولا حتى الناعمة، بل أصبحت القوة الذكية التي تقاس بامتلاكها تقنية جديدة تمكّنها من تحقيق سبق علمي على غيرها من الدول، فأصبحت المعرفة هي الكنز الحقيقي، ومصدر الثروة الذي لا ينضب.

باتت المنافسة بين الدول المتقدمة تتركّز على الجانبين العلمي والتقني، فأصبحت السيطرة على “تقنية الذكاء الاصطناعي” هي الطريق إلى التربّع على عرش العالم.

والطريق إلى السيطرة على تلك التقنية مرهون بالسيطرة على صناعة الرقائق الإلكترونية (أشباه الموصلات)، وهي الحرب الأخيرة التي شهدها العالم بين الصين والولايات المتحدة.

نتيجة لذلك، بات الفارق في التطور التقني بين البلدين يُقاس بالساعات والدقائق، لا بالعقود والأعوام.

وأصبحت قضية المنافسة التكنولوجية قضية أمن قومي، لا قضية اقتصادية فقط، وخصوصاً من وجهة نظر الولايات المتحدة الأميركية، التي وجدت نفسها كأنها أُخذت على حين غرّة، حين وجدت أن 80% من هذه الصناعة المهمّة تأتي من آسيا، وبصورة خاصة من تايوان وكوريا الجنوبية واليابان.

إن هذه التقنية تشكل عصب الحياة لمصنع العالم، الصين، التي لم تكن تشكل أي تهديد للولايات المتحدة حتى عام 2010، حين أصبحت الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم. حينها شعرت الولايات المتحدة بحتمية الحدّ من نفوذها.

من هنا، باتت فكرة احتواء الصين تعني أولاً، وقبل كل شيء، الحدَّ من طموحاتها التقنية، وعرقلة نموها، علمياً وتقنياً، وهو النموّ الذي بات يشكّل تهديداً حقيقياً للدولة التكنولوجية الأهم في العالم (الولايات المتحدة الأميركية).

احتواء الصين

لم تكن فكرة احتواء الصين فكرة جديدة في السياسة الأميركية، فلقد كانت بكين الشغل الشاغل للإدارات الأميركية المتعاقبة، وخصوصاً الإدارات الثلاث الأخيرة (أوباما وترامب وبايدن).

ففي عام 2015، قام الرئيس باراك أوباما بمنع شركة Intel   الأميركية من بيع رقائقها الإلكترونية لمصلحة مراكز الأبحاث الصينية، بحجة ارتباط تلك المراكز بالجيش الصيني.

أمّا إدارة ترامب فزادت في حدّة المواجهة والعقوبات الاقتصادية المفروضة على بكين، وألبستها طابعاً أمنياً (قضية أمن قومي)، بهدف الحد من التمدد الصيني، وخصوصاً اقتصادياً وتكنولوجياً.

في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2022، جاءت استراتيجية الأمن القومي الأميركي، والتي أكّدت أن الصين هي التحدي الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية، بسبب ما ‏لديها من قدرات ورغبة في إعادة تشكيل النظام الدولي القائم، نظراً إلى ما تملكه من قدرات (اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية).

كانت توجهات السياسة الأميركية بشأن احتواء الصين تركز على الجانبين التقني والتكنولوجي، اللَّذين يُعَدّان الطريق الأسرع بالنسبة إلى بكين من أجل تقليص الفجوة بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية. لذا، جرى العمل على الحدّ من طموحات بكين التكنولوجية في 3 اتجاهات:

1-  شركة هواوي الصينية، بسبب ما تشكله من خطر بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وخصوصاً بعد امتلاكها تقنية الجيل الخامس، وهي التقنية التي سعت بكين لتسويقها في عدد من دول العالم، في مقابل حملة أميركية منظَّمة استهدفت تخويف الدول من استخدام هذه التقنية، التي ستتيح للصين التجسس على تلك الدول، بحسب المزاعم الأميركية.

في 1 كانون الأول/ديسمبر 2018، وبينما كان الرئيس ترامب يجتمع بالرئيس الصيني، شي جين بينغ، في الأرجنتين، تم اعتقال منغ وانزو، المديرة المالية لشركة هواوي، وابنة مؤسس الشركة والوريثة المتوقعة لها في كندا، بتهمة تورطها في تحدي العقوبات الأميركية المفروضة على إيران.

كانت هواوي رمزاً من رموز صناعة التكنولوجيا المتطورة في الصين. وكانت أكبر شركة مصنّعة للهواتف الذكية في العالم في عام 2020، بحيث تجاوزت إنتاج سامسونغ وآبل في مجال الهواتف الذكية. وكان متوقَّعاً أن تسيطر على صناعة الهواتف الذكية في العالم، عبر شراء أصول في شركتي سامسونغ وآبل.

وكانت هواوي وضعت نظام التشغيل الخاص بها، وهو بديل من نظام أندرويد المعمول به في جميع الهواتف الذكية اليوم، وبِيع هذا النظام في أكثر من 170 دولة في العالم.

لكن، اليوم، بسبب العقوبات الأميركية المفروضة على الشركة، لم تعد موجودة حتى ضمن أفضل خمس شركات مصنّعة للهواتف الذكية في العالم، بحيث تراجعت إيراداتها، وأصبح الهدف المعلن لمجلس إدارتها هو المحافظة على استمرار عملها، وألّا تتعرض للإغلاق.

2-  حرب الرقائق الإلكترونية، التي تقودها الولايات المتحدة ضد الصين. تلك الرقائق باتت تدخل في صناعة كل شيء. وبالتالي، فإن التحكّم فيها سيتيح التحكم في الصناعة الصينية وتدميرها.

أصبحت الرقائق الإلكترونية عصب الحياة ومقياس التطور في عالم اليوم، وخصوصاً أن البلدين يدركان جيداً أن العنصر الحاسم في تفوق أحدهما على الآخر هو العنصر التكنولوجي، وتحديداً امتلاك تقنية الذكاء الاصطناعي، التي ستكون الحامل الأهم للقوة، في العقود المقبلة. لذا، أصبح امتلاك تلك التقنية الشغل الشاغل للحكومة الصينية، وباتت تلك العقوبات تشكل مساساً بالأمن القومي لبكين.

تنبّه الصينيون لأهمية شراء تلك الرقائق وتخزينها، بعد المشكلة التي وقعت مع المديرة المالية لشركة هواوي، فسعوا لشراء الرقائق وتخزينها تجنباً لأيّ عقوبات أميركية محتملة. وبعد نحو عام، كانت الصين اشترت رقائق إلكترونية بـ 23.45 مليار دولار بزيادة بلغت 78% بالنسبة إلى مشترياتها في عام 2018. 

وفي عام 2020 قامت شركة Tsmc التايوانية وحدها بصناعة أكثر من مليوني رقاقة. وفي أيار/مايو 2020 أصدرت وزارة التجارة الأميركية قراراً يقضي بمنع الشركات المصنّعة للرقائق الإلكترونية من التعامل مع الحكومة الصينية.

نتيجة لذلك، انخفضت أرباح شركة هواوي 67%، وقامت ببيع علامتها التجارية المشهورة Honor في تشرين الثاني/نوفمبر 2020.

يوجد في العالم خمس شركات تسيطر على صناعة الآلات اللازمة لصناعة الرقائق الإلكترونية، وهذه الشركات هي Asml الهولندية،- Tokyo Electron اليابانية،- Applied Materials الأميركية،- Lam Research Corp  الأميركية،- Kla Corp الأميركية.

كلّ هذه الشركات ممنوعة من بيع المعدات للصين، وخصوصاً أن كل هذه الشركات تستخدم البرامج الأميركية اللازمة لهذه الصناعة. وبالتالي، فهي تندرج ضمن قاعدة المنتج الأجنبي المباشر FDPR.

وصلت الصين إلى تصنيع أرقى الشرائح الإلكترونية وأعقدها، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنها قادرة على الاستمرار في تصنيعها لأنّها في حاجة إلى البرامج الإلكترونية التي تدخل في تصميم تلك الشرائح، وهذه البرامج أميركية. ويعني بالتالي العودة إلى تصنيع شرائح 18 نانو متر؛ أي تعود الصين إلى عام 2011، كما حدث مع روسيا.

استطاعت الولايات المتحدة توجيه ضربة قوية إلى موسكو على الصعيد التكنولوجي من خلال منع بيع الرقائق الإلكترونية لها، الأمر الذي تسبب بمشكلات كبيرة لصناعة الأسلحة الروسية وقطع الغيار اللازمة لها، وهو ما يعكس أهمية هذه الصناعة وقدرتها على شل حركة معظم الصناعات المتطورة.

شكلت العقوبات الأميركية الأخيرة المفروضة على موسكو، بسبب الحرب في أوكرانيا، درساً مهماً لبكين، ومحفزاً قوياً لها على العمل على امتلاك تقنية صناعة أشباه الموصلات مهما كلّف الأمر.

لقد منعت وزارة التجارة الأميركية أي شركة في العالم من أن تبيع الصينيين أيَّ مكون من المكونات التي تدخل في صناعة أشباه الموصلات، إلّا بإذن مسبّق.

ومن الثابت علمياً حتى الآن، أنّ من المستحيل على أيّ شركة في العالم أن تصنع أشباه الموصلات من دون الاستعانة بأدوات تم تصنيعها أميركياً، بمعنى العودة بالصين إلى الصفر في هذه الصناعة، وخصوصاً أن هناك حماية أميركية لكل الأبحاث وبراءات الاختراع التي تخص هذه الصناعة. 

كذلك، شملت العقوبات الأميركية منع كل من يحمل الجنسية الأميركية، أو يقيم بأميركا، من مساعدة الصينيين على الحصول على هذه الصناعة، بحيث تشير الأرقام إلى وجود 43 شخصاً ممن يحملون الجنسية الأميركية، ويشغلون مواقع تنفيذية متقدمة (مثل: مدير- مدير تنفيذي – رئيس مجلس إدارة) في شركات أشباه الموصلات الصينية، بالإضافة إلى 200 شخص أميركي يعملون في تلك الشركات. 

أصبح هؤلاء مهدَّدين إمّا بترك وظائفهم في شركات أشباه الموصلات الصينية، وإمّا بنزع الجنسية الأميركية منهم، وخصوصاً أن أكثر هؤلاء ليسوا أميركيين، بل صينيون وتايوانيون ويابانيون… إلخ. وبالتالي، هم أكثر تمسكاً بهذا الجواز ربما.

الصين، من جهتها، سعت، عبر كل الطرائق والوسائل الممكنة، لتفادي تلك العقوبات، والعمل على التخفيف من آثارها. لذا، حاولت إقناع الحكومة الأميركية بالسماح بحرية التجارة، انطلاقاً من مبدأ المحافظة على سلامة سلاسل التوريد العالمية، مؤكدة أن هذه القضية ليست سوى قضية اقتصادية لا علاقة لها بالأمن القومي الأميركي.

وفي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، دعا الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى التركيز على الأبحاث العلمية اللازمة للوصول إلى الاكتفاء الذاتي في هذا المجال.

لكن، قبل أيام، أعلنت الحكومة الصينية خطة لتقليص النفقات التي رصدتها لتطوير صناعة الرقائق، والبالغة 140 مليار دولار، وهي خطوة مفاجئة قد يكون الهدف منها ضغط الإنفاق الحكومي، أو ربما بسبب قرب التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة بشأن هذا الموضوع.

3-  تطبيق تيك توك الصيني: لم يتعرض تطبيق للهجوم الذي يتعرض له تيك توك الصيني، الذي بات عدد متابعيه يتجاوز 1.2 مليار مستخدم، والأرقام آخذة في ازدياد شديد، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وسائر الدول الأوروبية. وبالتالي، أصبح يهدد السيطرة الأميركية المطلقة على شبكة الإنترنت العالمية، كما أنه يساهم في صناعة الذوق العام، وهو ما تخشاه الولايات المتحدة، بصورة كبيرة.

وكانت شركة بايت دانس الصينية استحوذت على تطبيق ميوزكلي الأميركي في عام 2017، في مقابل مبلغ مليار دولار. هذا التطبيق أعيد إطلاقه باسم تيك توك، وكان فيه بيانات أكثر من 100 مليون مستخدم أميركي حينها. 

بدأ الهجوم على تيك توك في تشرين الأول/أكتوبر 2019، عندما قام أعضاء من الكونغرس بالطلب إلى القائم بأعمال مدير الاستخبارات الأميركية التحقيق في مدى تأثير تيك توك في الأمن القومي الأميركي. وكذلك، طلبت زارة الدفاع الأميركية إلى الجنود الأميركيين حذف تطبيق تك توك. وفي عام 2020، طلبت شركة أمازون إلى موظفيها عدم استخدام تيك توك، ثم تبعها في ذلك عدد من الشركات والمؤسسات والبنوك.

ظهرت، في إثر ذلك، آراء تطالب الحكومة الأميركية بضرورة إجبار شركة تيك توك الصينية على بيع التطبيق أو حظره. لكن الحكومة الصينية استبقت ذلك، وأصدرت قراراً يحظر بيع الخوارزميات المتقدمة، التي تشبه الخوارزميات التي يقوم عليها تطبيق تيك توك إلّا بموافقة الحكومة الصينية.

وعندما جاءت إدارة ترامب فكرت في إجبار الصين على بيع التطبيق لشركة مايكروسوفت الأميركية. ووقع الرئيس بايدن على أمر رئاسي يقضي بحظر تيك توك إذا لم توافق الشركة الصينية على بيعه، وأعطاها مهلة 45 يوماً حتى 20 أيلول/سبتمبر 2020، ثم تمّ تمديد المدة إلى 90 يوماً، ثم صدر قرار من المحكمة يلغي قرار الرئيس بناءً على دعوة تقدَّمت بها شركة تيك توك ضد الرئيس.

واليوم، على رغم كل التحذيرات الحكومية الأميركية، فإن عدد مستخدمي تطبيق تيك توك في أميركا يتجاوز 136 مليون مستخدم؛ أي أن نصف الشعب الأميركي تقريباً يستخدم هذا التطبيق، وخصوصاً الشبان.

من خلال هذا العرض السريع للحرب القائمة بين القوتين العظميين في العالم، تتبين لنا نوعية الحرب القائمة وأدواتها. فالصين، كعادتها، ما زالت تبحث عن الحلول لا المواجهة. لذا، لجأت إلى تقديم شكوى إلى منظمة التجارة العالمية، بسبب العقوبات الأميركية المفروضة على 2800 سلعة صينية، تندرج فيها 1800 سلعة ضمن اختصاصات المنظمة الدولية. 

يأتي ذلك في ظل حالة الشلل التي تعيشها المنظمة، بعد رفض الولايات المتحدة تعيين قضاة جدد فيها، وفي ظل القناعة الأميركية بأن خلافاتها مع الصين لا تندرج ضمن اختصاصات منظمة التجارة العالمية. فالقضية ليست قضية تجارية وحسابات ربح وخسارة فقط، بل إنها قضية تمس الأمن القومي لها أيضاً.

من الثابت أن عناصر القوة للدولة تباينت، فبتنا نرى دولاً تمتلك أقوى الجيوش، لكن أمنها القومي قد يهتز بسبب تطبيق إلكتروني. وهو ما نراه اليوم في ظل المخاوف الأميركية والأوروبية والأسترالية والهندية من تطبيق تيك توك “التافه”، على حدّ وصف من يطلق هذه المخاوف.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.